لم يتم التحقق
لأديب المصري عمر حاذق المحبوس بقانون التظاهر لـ "لكم": نستحق حياة أفضل
الرباط, عمالة الرباط, الرباط سلا القنيطرة, المغرب
"عمر حاذق" أديب سكندري شاب ( 37 عاما ) جرى ترجمة العديد من قصائدة الى لغات أجنبية وكرمته لابداعاته أكثر من دولة عربية وأوروبية . وأعلن نشر روايته " لا أحب هذه المدينة " العام الماضي عن مولد روائي متميز أيضا . ثم تلاها نشر روايتي " روائي المدينة الأول "و""قلب سمكة ". إلا أن هذه الاعمال الروائية صدرت جميعا وهو في السجن يقضى عقوبة عامين جراء قانون التظاهر . وعلى الرغم من انه أمضي أكثر من ثلاثة أرباع المدة الا انه مازال سجينا . وقد أجري هذا الحوار معه عن أعماله الروائية عبر الأسوار من خلال أسرته، وذلك بعد ان نشرت عنه مقالا بصحيفة الأهرام تحت عنوان :" الأديب السجين عمر حاذق" قبل نحو شهرين. وفيما يلي نص الحوار كاملا:
اختيار اعمالك الروائية يبدو انه على صلة بالأجواء العامة في البلاد مع ان نصين منها يدوران في أطار تاريخي .. هذا مفهوم من روايتك الأولى التي كتبتها في زمن حكم الإخوان .. لكن كيف ترى روايتك الثانية والثالثة في سياق اللحظات الراهنة؟
ـ كتابتي لا تتصل مباشرة بالأجواء العامة في البلاد ، بل تتصل بهمومي وأحلامي لنفسي وللناس ، كل الناس ، ورؤيتي لنفسي ولهؤلاء.وهمومي وأحلامي تلك مرتبطة دون شك بالأجواء العامة في البلاد وبغيرها . كتبت من قبل أنني شعرت بغضب وحزن مرير بسبب حكم مرسي . لم أكن أتوقع هذا البؤس كله ، حتى كدت أوقن بضياع البلد كلها . أردت أن أصاحب أحداً ، أن أكتشف شيئاً ما عن هذا الشعب . ربما هوية أخرى غير الهوية التي طرحها مرسي . لذلك نقبت طويلاً في تاريخ مصر وحضارتها ، واخترعت صاحبي الفنان الفلاح ، البسيط ، المقهور ، المقموع ، الذي لا يريد أن يكف عن المثابرة ليعيش حياة أقل ضنكاً وفقراً من حياته التي لا يستحقها . دون أن أقصد ، لاحظت لاحقاً ، أن هذا كان حال الشباب المصري "الغلبان" ، الذي نضج بعد تراكم تغييرات كيفية متعددة طرأت مع الألفية الجديدة فتحت عيون الشباب فطالب بحياة أقل ضنكاً وفقراً . مثلما حلم صديقي حورس ايضاً.
لو لم أكتب في السجن لمت أو جننت
في روايتي الأحدث " قلب السمكة " التي كتبت فكرتها الرئيسية قبيل سجني ، ثم أعدت كتابتها في السجن ، كنت أكثر مرارةً من أي وقت مضى . شاركت بقناعة راسخة في المظاهرات ضد مرسي ، وكنا جميعاً نستحق حياة أفضل من حياتنا الآن . حين كنت أعارض مرسي ، عارضته لأنه فشل في جعل فقراء بلدي أقل فقراً ومعاناة . الآن وصلت الأسعار حدوداً جنونية كاوية مثل النار ، مع النزول بهامش الحرية الى ما دون الصفر ، حتى أصبحت معارضة السلطه بأي شكل سبباً لكثير من القمع والبطش .عيوب نظام مبارك كلها عادت بدرجات وأعماق مؤلمة . كنت بحاجة ماسة لإحياء شاعر رائع كـ"أبي حي النميري" ، لمصاحبته ومناجاته والتواصل مع ما طرحه من قيم وأفكار عن الحب ، العالم ، الفن ، الأخلاق .
مع ذلك لا أظن أن صلة واضحة بين الأوضاع العامة وكتابة روايتي الثانية " روائي المدينة الأول " وهي الثانية في ترتيب نشرها والأولى في ترتيب كتابتها. وسأذيع سراً طريفاً . كانت فكرة هذه الرواية في ذهني أبسط وأقصر . كنت لم أكتب منذ فترة احتشاد ودراسات لكتابة " لا أحب هذه المدينة " . أردت أن أمرن نفسي بقصة قصيرة ، جلست على المقهى مشيشاً بعد تمشية طويلة على الكورنيش وسماع مستمر لأغاني أحبها . مازلت ُ أذكر تلك الليلة.كتبت قصة قصيرة في نصف صفحة . وبدأت في كتابة "روائي المدينة الأول" متصوراً أن تستغرق صفحة أو صفحتين ، كتمرين للدخول في عالم " لا أحب هذه المدينة " ، فإذا بالفكرة البسيطة تمد جذوراً وتنمو وتفرع غصونها . أدركت فوراً انها رواية لا قصة قصيرة ، تعاطفت معها ، مع إصرارها على شق مجراها لحظة بلحظة حتى انطلقت . لهذا لم أجد وقتاً وطاقة كافيين للاهتمام بنشرها بعد إتمامها. لأنني بدأت كتابة النص الذي كنت ممتلئاً به وقتها : لا أحب هذه المدينة !!
أنت ابن مدينة ومن زمن الكومبيوتر والانترنت ولكنك اخترت فلاح فنان بطلا لروايتك الأولى وكتبت عن الريفيين في كأنك من أهل الريف لكنك عدت الى التاريخ.. كيف تفسر هذا؟
ـ أحب الريفيين لأنهم رمز واضح للظلم والفقر والتهميش . لم يكن لي أي صلة بالريف معيشياً أو عائلياً ، ورغم ان المجتمع المصري الآن يضم طبقات أشد بؤساً وفقراً من الفلاحين ( العشوائيات وأحياء الصفيح مثلاً ) غير أن الفلاحين المصريين ظلوا بالنسبة لي أيقونة ً للمظلومية والتهميش ، ربما بسبب حضورهم التاريخي الطويل في هذا النطاق .و من الطريف أن حياتي في السجن رسخت هذا الانحياز في وجداني . أكثر الذين تعاطفتُ مع مظلوميتهم وطيبة قلوبهم رغم قسوة الدنيا عليهم فلاحون فقراء لم ألتق بهم أو بأمثالهم في حياتي قبل السجن . معي سجين فلاح من كفر الدوار . سائق ميكروباص مضحك مثله ( نوع يشبه الدبابة ) يحكي لنا ببساطة انه من كثرة الغلب يعمل كثيراً حتى كان احياناً ، يغفو أثناء القيادة فيسترها ربنا . هذا الفلاح الفقير كان له سائق صديق ( أنتيم ) ينقل المتظاهرين من الاسكندرية لرابعة لـ"تقليب رزقه" . وفي ليلة فض الاعتصام كان هناك ينقل متظاهرين ، فأخذته الشهامة ورفض ترك الناس هناك فقُتل أثناء الفض . زميلي الفلاح البسيط حزن عليه حزناً شديداً وأراد أن ينتقم له .فماذا فعل ؟ .كلما مر بكمين أو لجنة أشار لهم بعلامة رابعة فور تجاوزهم ، ثم يهب مسرعاً قبل أن يمسكوا به !
مرة أمسكوه . وتم ضمه لقضية تظاهر كانت مفتوحة وقتها رغم أنه لم يتظاهر أبداً .و حكم عليه بالسجن سنتين تنتهيان في 27/ 12/2015 . هذا السائق الأمي يتفنن يومياً في اختراع وجبات ومشروبات جيدة لزملاء الزنزانة كلهم . يخترع من أي قطعة قمر الدين صغيرة مشروب قمر الدين لنا جميعا ، الـ 25 سجيناً !!
ولا تسأل كيف ولا مِمّ ولا أين ولا فيم .ولأنه أمّي بسيط ، قرر أن يؤذن للصلاة لينال الأجر لأنه لايقدر على إمامة المصلين . مرةً كان يؤذن فأستيقظ الزملاء ،وبدأوا في حجز دور لدخول الحمام الصغير القذر . فأجأني صديقي الغلبان . التفت الي ّ ، وكنت خلفه ، بين جملتين من الأذان .وأشار إليّ بيده أن أحجز له دوراً في طابور الإنتظار. ثم عاد واستقبل القبلة وأكمل الآذان ببساطة فجّرتني ضحكاً . في روايتي الرابعة ( الحياة باللون الأبيض ) التي كتبتها كلها في السجن ( قيد النشر ) كتبت مشاهداً لرجل عجوز يشير لأفراد عائلته وهو يصلي قبل ان ألتقي بصديقي الفلاح الغلبان . ستجد لدى "حورس"( الفلاح الفنان بطل رواية لاأحب هذه المدينة) ملامح تشبه هذه التي لا تملك الا أن تحبها وتتعاطف معها .
كيف أثرت كتابة الشعر بداية في اعمالك الروائية، وهل ترى ان هناك من كانوا أكثر تأثيرا في ابداعك كروائي؟
الجهد المبذول في دراسة التاريخ أوضح مع رواية "لا أحب هذه المدينة"
ـ لا يمكنني ان أحدد مدى تأثير الشعر في رواياتي . أظن أن له حضوراً ما فيها . ولعل النقاد أقدر على تحديد ذلك. قرأت لروائيين رائعين كثيرين وتعلمت منهم ، ومن الناس البسطاء الذين يضحكونني ويُبكونني بلقطات إنسانية نادرة . في ليلة القدر ، وكنت ساهراً كعادتي قبل الفجر أقرأ أو أدرس تصميم "الأوريجامي" ( طي و تشكيل الورق) لاحظت هذا الزميل الفلاح الأمّي جالساً وحده يدعو الله بعد الصلاة والزملاء نيام كلهم ليرتاحوا قبل الفجر . الذي أثّر فيّ كان لقطة صغيرة بالغة الدلالة : كان رافعاً ذراعيه كليهما ، نحو السماء ، متضرعاً ، متوسلاً الى الله. وكأنما كان يشعر بأنه يناجيه مناجاة مباشرة ، وكنت أعلم دون أن يخبرني أحد أنه يدعو الله أن يقضي العيد مع بناته بعد أن نشرت الصحف القومية ( صحف الدولة ) مانشيتات كبيرة عن وعود الرئيس بإصدار عفو عن دفعة ثانية من السجناء السياسيين قبل نهاية رمضان ، ولم يصدر عفو إلا عن بعض الغارمات . وقضى زميلي عيده يوزع بعض "الكحك البايت" على زملائه ويخترع على طريقته وجبات شهية ، لأنه لا يملك إلا أن يدافع عن حياته بهذه الطريقة . مهما وصفتُ لك الآن ، لن تدرك أبداً إحساسي لحظة دمعت عيناي حين رأيت هذه اللمحة من الضراعة والألم الإنساني الذي يزلزل كيانك كله في ثانية واحدة مشحونة بالأبدية .
كيف عثرت على شخصية الشاعر "أبي حية" كما جسدتها في روايتك " قلب السمكة "؟.. وكيف اكتشفت غناها روائيا ودراميا؟
ـ خلال قراءاتي في الشعر العربي القديم عثرتُ بمطلع قصيدة له بهرني . كان ذلك في أواخر التسعينيات ، ولاحظتُ أن شعره قليل نادر في كتب النقد القديم ، مع اتهامه بالجنون . لفت نظري ذلك كله ، غير أنني أجّلتُ تقصّي الأمر حتى جاء وقت إصدار قانون التظاهر ، متزامناً مع دلائل كثيرة على القبضة الأمنية شديدة البطش والغلاء الذي تكسرت عليه أحلام ثورة 30 يونيو التي شُاركت فيها بكياني كله لأن فقراء شعبي يستحقون حياةً أفضل .لحظتها انطلقت أقتفي أثر صديقي "أبي حية ". أما عن حياته روائياً ، فتاريخه مجهول تقريباً إلا من بعض الأخبار المتناثرة والمدهشة . وقد ذكرت في مقدمة الرواية أن تفاصيلها الدرامية كلها متخيلة رغم أن الشعر الوارد فيها حقيقي .
يبدو الجهد المبذول في تقصي الواقع المعيش والثقافي لمصر التي تنتقل الى عصر المسيحية في روايتك الأولى " لا أحب هذه المدينة " .. واضح انك قمت بأبحاث في تلك المرحلة كما ان النص غني بالأحداث و بالشخصيات .صحيح انك تعتمد على الرواي بطل القصة كما في الروايتين اللاحقتين . لكنهما يبدوان أقل تركيبا وافقر في شخوصهما واحداثهما .. بماذا تفسر هذا؟
ـ لا يمكنني عمل مقارنة نقدية بين رواياتي. فقط يمكننيُ بهذا الصدد ، أن أعترف بأن الجهد المبذول في دراسة التاريخ والحضارة والانثروبولوجي كان أكثر وأوضح في "لا أحب هذه المدينة " .و ربما جنحت الروايتان الأخريان نحو الشعر ، نحو غنائيته ومجازه مثلاً . ولكل نص طبيعته وتقنياته وتركبيه الخاص المتسق مع روحه .
هل لتجربة السجن والكتابة في عتمته وقيوده على الحركة والبحث تأثير على هذا المنحي في رواياتك؟
ـ تجربة السجن ذات تأثير هائل على روحي وعقلي، وبالتالي على كتابتي . كتبتُ عن ذلك مراراً في رسائلي . يمكننك مراجعة رسالتي ( أوصيكم بمحبة الحياة ) مثلاً أو رسالتي ( أن تكتب رواية بجوار برميل زبالة لا يغسله أحد ). الأمر الوحيد الذي أثق فيه تماماً الآن أنني لو لم أكتب في السجن لمتُّ أو جُننتُ . كل ما تقرأه وتشاهده عن السجن وأنت خارجه لا يساوي لحظة واحدة تعيشها بعد عبورك بوابة السجن في سيارة الترحيلات باعتبارك مجرماً محكوماً عليك . كل من سيتعامل معك سيذكرك بذلك بدرجات متفاوتة القسوة ، بينما أنت لم ترتكب الا جريمة الحلم بوطن أجمل وفقراء أقل بؤساً .
هناك خط من الفانتازيا في كافة رواياتك حتى في " لا أحب هذه المدينة " .. هذا الخط يبدو وكأنه يتصاعد من رواية الى أخرى ليبلغ ذروه غير مسبوقة في "روائي المدينة الأول" .. كيف ترى الأمر؟
ـ أوافقك على أن خط الفانتازيا يبلغ ذروته في " روائي المدينة الأول ". وربما يدهشك أن تعرف أنها النص الأول كتابة ً . ثم عادت الفانتازيا في ( قلب السمكة ) بحضور واضح . أرى الأمر ، كما أوضحتُّ أعلاه ، مرتبطاً بطبيعة العمل وروحه التي تختار الجسد الملائم لها . لذلك لا أميل الى المقارنة بين النصوص .
هل تعتقد بانك مظلوم بالنسبة لحظك من الاهتمام الاعلامي والنقدي .. وهل يعود هذا الى انك بالاصل وقبل السجن لم تكن من بين أعضاء او زبائن الشلل الثقافية؟
للشعر حضوره بأعمالي الروائية والفانتازيا بلغت ذروتها في " روائي المدينة الأول"
ـ الحق أني قبل السجن نُلت اهتماماً إعلامياً ظاهراً .و تحديداً بعد فوزي بجائزة شعرية مرموقة أو تكريم من مهرجان شعري دولي . لم تكن لي أي شلة ، وليس في الإسكندرية " شِلل" بالمعنى القاهري للكلمة . لكن طبيعة الجوائز و التكريمات اقتضت ذلك .و منذ ثورة يناير العظيمة لم أتقدم لمسابقات أو أحداث شعرية تقريبًا ، كما فتر اهتمامي بنشرأي إصدارات جديدة بشكل رسمي .الآن ليس ثمة اهتمام إعلامي بي. ليس لغيابي عن الترويج لكتبي الجديدة التي صدرت كلها بعد السجن بالترتيب : "لا أحب هذه المدينة" ثم "روائي المدينة الأول" ثم "قلب السمكة " .هذا ليس لغيابي فحسبُ ،بل لأسباب أقوى كالهم العام و صعوبة حياة الناس و تداعيات الاضطراب السياسي و طغيان الشعور بالإحباط لحظة امتلاء الناس بالأحلام والأماني . لا تشعر السلطة الآن بما يغص به الشباب من قرف و أسى.
ماهي مشروعاتك للكتابة مستقبلا؟
ـ درستُ فن الأوريجامي و نفذتُ تصميمات كثيرة لفنانين عديدين ، ثم قمتُ بتصميم قطع فنية مختلفة . والآن أدرس فن التصميم بشكل علمي وهندسي من خلال أهم مرجع لتصميم الأوريجامي . ولديّ أفكار أولى لعدد من القصائد ، أرجو أن أصفيها و أكتبها حين يتهيأ لي ذلك .
من اين تستمد هذا الأمل الذي لمسته في اعمالك الأدبية شعرا ونثرا؟
ـ من الحياة ، ومن الناس الذين لا يتوقفون عن ابتكار حلول كثيرة لأزمات السجن و مصاعبه .و ما أكثرها و آلمها و أقساها!! .ومن المدهش أنني مررتُ بفترات كآبة قاسية و طويلة منذ ثورة يناير بسبب كبواتها الكثيرة ،و بسبب انكسار ثورة العاملين بمكتبة الإسكندرية حيث كنت أعمل، و بسبب صدماتي في أصدقائي .ومنذ سُجنتُ، شُحنتُ بالأمل. لا تستطيع أن تفقد الأمل و أنت تجد ناسًا كثيرين لا تعرفهم لكنهم يحاولون مساعدتك .فقط لأننا شعب طيب ، يحب الحياة من حيث هي حياة فحسب. تواجه أيضًا ناسًا مجرمين و معتدين و مسلمين بلا إسلام و مرضى نفسيين .ومع ذلك كله تجد من يسعى للتخفيف عنك بغير كلل .لا يمكنك أن تفقدالأمل و أنت تجد السلطة تؤذيك و تظلمك كل لحظة . ثم تكتشف أنك تزداد حبًا لهذا البلد و شفقةً على الشعب و إن استكان وانغلب منكسرًا مرةً ما . أعود إلى ما ذكرته كثيرًا من قول الشاعر العظيم "جارسيا لوركا" : "كل ما كتبتًه و ما أكتبه إنما أكتبه لكي يحبني الناس".
- - -
- ينشر بالتزامن في "البداية " و"بوابة يناير" المصريتين و "لكم" المغربة و "حقائق أون لاين" التونسية.
اختيار اعمالك الروائية يبدو انه على صلة بالأجواء العامة في البلاد مع ان نصين منها يدوران في أطار تاريخي .. هذا مفهوم من روايتك الأولى التي كتبتها في زمن حكم الإخوان .. لكن كيف ترى روايتك الثانية والثالثة في سياق اللحظات الراهنة؟
ـ كتابتي لا تتصل مباشرة بالأجواء العامة في البلاد ، بل تتصل بهمومي وأحلامي لنفسي وللناس ، كل الناس ، ورؤيتي لنفسي ولهؤلاء.وهمومي وأحلامي تلك مرتبطة دون شك بالأجواء العامة في البلاد وبغيرها . كتبت من قبل أنني شعرت بغضب وحزن مرير بسبب حكم مرسي . لم أكن أتوقع هذا البؤس كله ، حتى كدت أوقن بضياع البلد كلها . أردت أن أصاحب أحداً ، أن أكتشف شيئاً ما عن هذا الشعب . ربما هوية أخرى غير الهوية التي طرحها مرسي . لذلك نقبت طويلاً في تاريخ مصر وحضارتها ، واخترعت صاحبي الفنان الفلاح ، البسيط ، المقهور ، المقموع ، الذي لا يريد أن يكف عن المثابرة ليعيش حياة أقل ضنكاً وفقراً من حياته التي لا يستحقها . دون أن أقصد ، لاحظت لاحقاً ، أن هذا كان حال الشباب المصري "الغلبان" ، الذي نضج بعد تراكم تغييرات كيفية متعددة طرأت مع الألفية الجديدة فتحت عيون الشباب فطالب بحياة أقل ضنكاً وفقراً . مثلما حلم صديقي حورس ايضاً.
لو لم أكتب في السجن لمت أو جننت
في روايتي الأحدث " قلب السمكة " التي كتبت فكرتها الرئيسية قبيل سجني ، ثم أعدت كتابتها في السجن ، كنت أكثر مرارةً من أي وقت مضى . شاركت بقناعة راسخة في المظاهرات ضد مرسي ، وكنا جميعاً نستحق حياة أفضل من حياتنا الآن . حين كنت أعارض مرسي ، عارضته لأنه فشل في جعل فقراء بلدي أقل فقراً ومعاناة . الآن وصلت الأسعار حدوداً جنونية كاوية مثل النار ، مع النزول بهامش الحرية الى ما دون الصفر ، حتى أصبحت معارضة السلطه بأي شكل سبباً لكثير من القمع والبطش .عيوب نظام مبارك كلها عادت بدرجات وأعماق مؤلمة . كنت بحاجة ماسة لإحياء شاعر رائع كـ"أبي حي النميري" ، لمصاحبته ومناجاته والتواصل مع ما طرحه من قيم وأفكار عن الحب ، العالم ، الفن ، الأخلاق .
مع ذلك لا أظن أن صلة واضحة بين الأوضاع العامة وكتابة روايتي الثانية " روائي المدينة الأول " وهي الثانية في ترتيب نشرها والأولى في ترتيب كتابتها. وسأذيع سراً طريفاً . كانت فكرة هذه الرواية في ذهني أبسط وأقصر . كنت لم أكتب منذ فترة احتشاد ودراسات لكتابة " لا أحب هذه المدينة " . أردت أن أمرن نفسي بقصة قصيرة ، جلست على المقهى مشيشاً بعد تمشية طويلة على الكورنيش وسماع مستمر لأغاني أحبها . مازلت ُ أذكر تلك الليلة.كتبت قصة قصيرة في نصف صفحة . وبدأت في كتابة "روائي المدينة الأول" متصوراً أن تستغرق صفحة أو صفحتين ، كتمرين للدخول في عالم " لا أحب هذه المدينة " ، فإذا بالفكرة البسيطة تمد جذوراً وتنمو وتفرع غصونها . أدركت فوراً انها رواية لا قصة قصيرة ، تعاطفت معها ، مع إصرارها على شق مجراها لحظة بلحظة حتى انطلقت . لهذا لم أجد وقتاً وطاقة كافيين للاهتمام بنشرها بعد إتمامها. لأنني بدأت كتابة النص الذي كنت ممتلئاً به وقتها : لا أحب هذه المدينة !!
أنت ابن مدينة ومن زمن الكومبيوتر والانترنت ولكنك اخترت فلاح فنان بطلا لروايتك الأولى وكتبت عن الريفيين في كأنك من أهل الريف لكنك عدت الى التاريخ.. كيف تفسر هذا؟
ـ أحب الريفيين لأنهم رمز واضح للظلم والفقر والتهميش . لم يكن لي أي صلة بالريف معيشياً أو عائلياً ، ورغم ان المجتمع المصري الآن يضم طبقات أشد بؤساً وفقراً من الفلاحين ( العشوائيات وأحياء الصفيح مثلاً ) غير أن الفلاحين المصريين ظلوا بالنسبة لي أيقونة ً للمظلومية والتهميش ، ربما بسبب حضورهم التاريخي الطويل في هذا النطاق .و من الطريف أن حياتي في السجن رسخت هذا الانحياز في وجداني . أكثر الذين تعاطفتُ مع مظلوميتهم وطيبة قلوبهم رغم قسوة الدنيا عليهم فلاحون فقراء لم ألتق بهم أو بأمثالهم في حياتي قبل السجن . معي سجين فلاح من كفر الدوار . سائق ميكروباص مضحك مثله ( نوع يشبه الدبابة ) يحكي لنا ببساطة انه من كثرة الغلب يعمل كثيراً حتى كان احياناً ، يغفو أثناء القيادة فيسترها ربنا . هذا الفلاح الفقير كان له سائق صديق ( أنتيم ) ينقل المتظاهرين من الاسكندرية لرابعة لـ"تقليب رزقه" . وفي ليلة فض الاعتصام كان هناك ينقل متظاهرين ، فأخذته الشهامة ورفض ترك الناس هناك فقُتل أثناء الفض . زميلي الفلاح البسيط حزن عليه حزناً شديداً وأراد أن ينتقم له .فماذا فعل ؟ .كلما مر بكمين أو لجنة أشار لهم بعلامة رابعة فور تجاوزهم ، ثم يهب مسرعاً قبل أن يمسكوا به !
مرة أمسكوه . وتم ضمه لقضية تظاهر كانت مفتوحة وقتها رغم أنه لم يتظاهر أبداً .و حكم عليه بالسجن سنتين تنتهيان في 27/ 12/2015 . هذا السائق الأمي يتفنن يومياً في اختراع وجبات ومشروبات جيدة لزملاء الزنزانة كلهم . يخترع من أي قطعة قمر الدين صغيرة مشروب قمر الدين لنا جميعا ، الـ 25 سجيناً !!
ولا تسأل كيف ولا مِمّ ولا أين ولا فيم .ولأنه أمّي بسيط ، قرر أن يؤذن للصلاة لينال الأجر لأنه لايقدر على إمامة المصلين . مرةً كان يؤذن فأستيقظ الزملاء ،وبدأوا في حجز دور لدخول الحمام الصغير القذر . فأجأني صديقي الغلبان . التفت الي ّ ، وكنت خلفه ، بين جملتين من الأذان .وأشار إليّ بيده أن أحجز له دوراً في طابور الإنتظار. ثم عاد واستقبل القبلة وأكمل الآذان ببساطة فجّرتني ضحكاً . في روايتي الرابعة ( الحياة باللون الأبيض ) التي كتبتها كلها في السجن ( قيد النشر ) كتبت مشاهداً لرجل عجوز يشير لأفراد عائلته وهو يصلي قبل ان ألتقي بصديقي الفلاح الغلبان . ستجد لدى "حورس"( الفلاح الفنان بطل رواية لاأحب هذه المدينة) ملامح تشبه هذه التي لا تملك الا أن تحبها وتتعاطف معها .
كيف أثرت كتابة الشعر بداية في اعمالك الروائية، وهل ترى ان هناك من كانوا أكثر تأثيرا في ابداعك كروائي؟
الجهد المبذول في دراسة التاريخ أوضح مع رواية "لا أحب هذه المدينة"
ـ لا يمكنني ان أحدد مدى تأثير الشعر في رواياتي . أظن أن له حضوراً ما فيها . ولعل النقاد أقدر على تحديد ذلك. قرأت لروائيين رائعين كثيرين وتعلمت منهم ، ومن الناس البسطاء الذين يضحكونني ويُبكونني بلقطات إنسانية نادرة . في ليلة القدر ، وكنت ساهراً كعادتي قبل الفجر أقرأ أو أدرس تصميم "الأوريجامي" ( طي و تشكيل الورق) لاحظت هذا الزميل الفلاح الأمّي جالساً وحده يدعو الله بعد الصلاة والزملاء نيام كلهم ليرتاحوا قبل الفجر . الذي أثّر فيّ كان لقطة صغيرة بالغة الدلالة : كان رافعاً ذراعيه كليهما ، نحو السماء ، متضرعاً ، متوسلاً الى الله. وكأنما كان يشعر بأنه يناجيه مناجاة مباشرة ، وكنت أعلم دون أن يخبرني أحد أنه يدعو الله أن يقضي العيد مع بناته بعد أن نشرت الصحف القومية ( صحف الدولة ) مانشيتات كبيرة عن وعود الرئيس بإصدار عفو عن دفعة ثانية من السجناء السياسيين قبل نهاية رمضان ، ولم يصدر عفو إلا عن بعض الغارمات . وقضى زميلي عيده يوزع بعض "الكحك البايت" على زملائه ويخترع على طريقته وجبات شهية ، لأنه لا يملك إلا أن يدافع عن حياته بهذه الطريقة . مهما وصفتُ لك الآن ، لن تدرك أبداً إحساسي لحظة دمعت عيناي حين رأيت هذه اللمحة من الضراعة والألم الإنساني الذي يزلزل كيانك كله في ثانية واحدة مشحونة بالأبدية .
كيف عثرت على شخصية الشاعر "أبي حية" كما جسدتها في روايتك " قلب السمكة "؟.. وكيف اكتشفت غناها روائيا ودراميا؟
ـ خلال قراءاتي في الشعر العربي القديم عثرتُ بمطلع قصيدة له بهرني . كان ذلك في أواخر التسعينيات ، ولاحظتُ أن شعره قليل نادر في كتب النقد القديم ، مع اتهامه بالجنون . لفت نظري ذلك كله ، غير أنني أجّلتُ تقصّي الأمر حتى جاء وقت إصدار قانون التظاهر ، متزامناً مع دلائل كثيرة على القبضة الأمنية شديدة البطش والغلاء الذي تكسرت عليه أحلام ثورة 30 يونيو التي شُاركت فيها بكياني كله لأن فقراء شعبي يستحقون حياةً أفضل .لحظتها انطلقت أقتفي أثر صديقي "أبي حية ". أما عن حياته روائياً ، فتاريخه مجهول تقريباً إلا من بعض الأخبار المتناثرة والمدهشة . وقد ذكرت في مقدمة الرواية أن تفاصيلها الدرامية كلها متخيلة رغم أن الشعر الوارد فيها حقيقي .
يبدو الجهد المبذول في تقصي الواقع المعيش والثقافي لمصر التي تنتقل الى عصر المسيحية في روايتك الأولى " لا أحب هذه المدينة " .. واضح انك قمت بأبحاث في تلك المرحلة كما ان النص غني بالأحداث و بالشخصيات .صحيح انك تعتمد على الرواي بطل القصة كما في الروايتين اللاحقتين . لكنهما يبدوان أقل تركيبا وافقر في شخوصهما واحداثهما .. بماذا تفسر هذا؟
ـ لا يمكنني عمل مقارنة نقدية بين رواياتي. فقط يمكننيُ بهذا الصدد ، أن أعترف بأن الجهد المبذول في دراسة التاريخ والحضارة والانثروبولوجي كان أكثر وأوضح في "لا أحب هذه المدينة " .و ربما جنحت الروايتان الأخريان نحو الشعر ، نحو غنائيته ومجازه مثلاً . ولكل نص طبيعته وتقنياته وتركبيه الخاص المتسق مع روحه .
هل لتجربة السجن والكتابة في عتمته وقيوده على الحركة والبحث تأثير على هذا المنحي في رواياتك؟
ـ تجربة السجن ذات تأثير هائل على روحي وعقلي، وبالتالي على كتابتي . كتبتُ عن ذلك مراراً في رسائلي . يمكننك مراجعة رسالتي ( أوصيكم بمحبة الحياة ) مثلاً أو رسالتي ( أن تكتب رواية بجوار برميل زبالة لا يغسله أحد ). الأمر الوحيد الذي أثق فيه تماماً الآن أنني لو لم أكتب في السجن لمتُّ أو جُننتُ . كل ما تقرأه وتشاهده عن السجن وأنت خارجه لا يساوي لحظة واحدة تعيشها بعد عبورك بوابة السجن في سيارة الترحيلات باعتبارك مجرماً محكوماً عليك . كل من سيتعامل معك سيذكرك بذلك بدرجات متفاوتة القسوة ، بينما أنت لم ترتكب الا جريمة الحلم بوطن أجمل وفقراء أقل بؤساً .
هناك خط من الفانتازيا في كافة رواياتك حتى في " لا أحب هذه المدينة " .. هذا الخط يبدو وكأنه يتصاعد من رواية الى أخرى ليبلغ ذروه غير مسبوقة في "روائي المدينة الأول" .. كيف ترى الأمر؟
ـ أوافقك على أن خط الفانتازيا يبلغ ذروته في " روائي المدينة الأول ". وربما يدهشك أن تعرف أنها النص الأول كتابة ً . ثم عادت الفانتازيا في ( قلب السمكة ) بحضور واضح . أرى الأمر ، كما أوضحتُّ أعلاه ، مرتبطاً بطبيعة العمل وروحه التي تختار الجسد الملائم لها . لذلك لا أميل الى المقارنة بين النصوص .
هل تعتقد بانك مظلوم بالنسبة لحظك من الاهتمام الاعلامي والنقدي .. وهل يعود هذا الى انك بالاصل وقبل السجن لم تكن من بين أعضاء او زبائن الشلل الثقافية؟
للشعر حضوره بأعمالي الروائية والفانتازيا بلغت ذروتها في " روائي المدينة الأول"
ـ الحق أني قبل السجن نُلت اهتماماً إعلامياً ظاهراً .و تحديداً بعد فوزي بجائزة شعرية مرموقة أو تكريم من مهرجان شعري دولي . لم تكن لي أي شلة ، وليس في الإسكندرية " شِلل" بالمعنى القاهري للكلمة . لكن طبيعة الجوائز و التكريمات اقتضت ذلك .و منذ ثورة يناير العظيمة لم أتقدم لمسابقات أو أحداث شعرية تقريبًا ، كما فتر اهتمامي بنشرأي إصدارات جديدة بشكل رسمي .الآن ليس ثمة اهتمام إعلامي بي. ليس لغيابي عن الترويج لكتبي الجديدة التي صدرت كلها بعد السجن بالترتيب : "لا أحب هذه المدينة" ثم "روائي المدينة الأول" ثم "قلب السمكة " .هذا ليس لغيابي فحسبُ ،بل لأسباب أقوى كالهم العام و صعوبة حياة الناس و تداعيات الاضطراب السياسي و طغيان الشعور بالإحباط لحظة امتلاء الناس بالأحلام والأماني . لا تشعر السلطة الآن بما يغص به الشباب من قرف و أسى.
ماهي مشروعاتك للكتابة مستقبلا؟
ـ درستُ فن الأوريجامي و نفذتُ تصميمات كثيرة لفنانين عديدين ، ثم قمتُ بتصميم قطع فنية مختلفة . والآن أدرس فن التصميم بشكل علمي وهندسي من خلال أهم مرجع لتصميم الأوريجامي . ولديّ أفكار أولى لعدد من القصائد ، أرجو أن أصفيها و أكتبها حين يتهيأ لي ذلك .
من اين تستمد هذا الأمل الذي لمسته في اعمالك الأدبية شعرا ونثرا؟
ـ من الحياة ، ومن الناس الذين لا يتوقفون عن ابتكار حلول كثيرة لأزمات السجن و مصاعبه .و ما أكثرها و آلمها و أقساها!! .ومن المدهش أنني مررتُ بفترات كآبة قاسية و طويلة منذ ثورة يناير بسبب كبواتها الكثيرة ،و بسبب انكسار ثورة العاملين بمكتبة الإسكندرية حيث كنت أعمل، و بسبب صدماتي في أصدقائي .ومنذ سُجنتُ، شُحنتُ بالأمل. لا تستطيع أن تفقد الأمل و أنت تجد ناسًا كثيرين لا تعرفهم لكنهم يحاولون مساعدتك .فقط لأننا شعب طيب ، يحب الحياة من حيث هي حياة فحسب. تواجه أيضًا ناسًا مجرمين و معتدين و مسلمين بلا إسلام و مرضى نفسيين .ومع ذلك كله تجد من يسعى للتخفيف عنك بغير كلل .لا يمكنك أن تفقدالأمل و أنت تجد السلطة تؤذيك و تظلمك كل لحظة . ثم تكتشف أنك تزداد حبًا لهذا البلد و شفقةً على الشعب و إن استكان وانغلب منكسرًا مرةً ما . أعود إلى ما ذكرته كثيرًا من قول الشاعر العظيم "جارسيا لوركا" : "كل ما كتبتًه و ما أكتبه إنما أكتبه لكي يحبني الناس".
- - -
- ينشر بالتزامن في "البداية " و"بوابة يناير" المصريتين و "لكم" المغربة و "حقائق أون لاين" التونسية.
رابط مصدر الأخبار
تقارير إضافية
ترويج للعنف عبر النيت
20:13 Mar 19, 2019
سلا, Pachalik de Salé, عمالة سلا, الرباط سلا القنيطرة, المغرب, 4.05 Kms
إعلان الفائزين بجائزة الصحافة المغربية... وحجب جائزة الكاريكاتير
20:42 Dec 11, 2019
المملكة المغربية, 7.66 Kms
اترك تعليق